* * *
*
الحجاج المغاربة قديما ومعاناتهم - 3
------------------------------------------------------------------
في هذا الموضوع سنتطرق الى المشاكل والأحداث التي واجهها الحجاج المغاربة القدماء في المشرق، تتميما للموضوع السابق، ومنها المكوس والضرائب التي يفرضها أهل مكة على قوافل الحج المغربية ومحامل الحج الشرقية
* * *
وقبل الدخول في تفاصيل هذه العمليات الجبائية بالأراضي المقدسة، يحسن بنا أن نتعرف على تاريخ بداياتها، ومن أحدثها
تقول الروايات التاريخية أن أول من أحدث الضرائب في مكة هو مضاض بن عمرو الجرهمي وهو صهر نبي الله سيدنا اسماعيل بن سيدنا ابراهيم الخليل عليهما السلام، وهو أيضا والد السيدة رعلة زوجة سيدنا اسماعيل عليه السلام، فكان يأخذ من الأموال عشرها لمن دخل من بابها الأعلى، في حين كان سبطه السميدع، يأخذ العشر ممن يفد الى مكة من أسفلها
وحينما أشرقت الجزيرة العربية بنور الاسلام على يد سيد الورى والأنام، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أبطل المكوس والضرائب، وأصبح بيت مال المسلمين يتكفل بكل صنوف العوز والاحتياج، والذي يستمد قوته من نظام الزكاة الذي وضعه التشريع الاسلامي، ليحقق تحت مظلته العدل الاجتماعي بين كافة الناس
واستمر الحال على ذلك طيلة عهد الخلفاء الراشدين ثم الخلفاء الأمويين، وأوائل عهد الخلفاء العباسيين، الى أن جاء القرامطة في عام 309 هـ وبدأت شوكتهم تنهش قوافل الحجاج، وهي في طريقها لأداء مناسك الحج، فزحف القرامطة كالجراد الشره قاصدين الأراضي المقدسة بالحجاز، وهجموا على زوار الحرم الشريف المكي دون رحمة وقتلوهم ونهبوهم ولم يتركوا أثرا لأخضر ولا يابس، حتى وصل بهم الأمر الى تعرية بيت الله الحرام وتجريده من كسوته، وسرقتها وتفريق أجزائها فيما بينهم، وسرقة الحجر الأسود المقدس، ونقله الى بلادهم ( هجر ) بدولة البحرين، لصرف النظر عن مقدسات مكة المكرمة
ويقول المؤرخ الأزرقي أن في هذا الجو الارهابي المشبع بالدماء العالقة بالسيوف نبتت من جديد فكرة فرض المكوس أو الضرائب على حجاج بيت الله الحرام، وكان صاحب هذه الفكرة هو ابو علي عمر بن يحيى العلوي، من أهل العراق، وقد طلب من زعيم القرامطة أبي طاهر القرمطي عام 327 هـ أن يخلي سبيل الحجاج المعتقلين لديه على مكس يأخذه منهم في المقابل، واقترح أن يكون مقداره خمسة دنانير على كل جمل وسبعة دنانير على كل محمل
وأول رد فعل ضد هذا القرار الخارج عن الاسلام، جاء من علماء الدين، ومنه ما حدث لأحد قضاة العراق وهو القاضي ابو علي بن ابي هريرة الشافعي، والذي حج في هذه السنة التي صدر فيها قرار القرامطة، وبينما هو في طريق الحج وجد فجأة من يوقفه من الجباة مطالبا إياه بأداء ضريبة الحج لأول مرة في تاريخ الاسلام، فرفض القاضي أداء الضريبة، ومنعوه من مواصلة سيره في الطريق الى الحج، فما كان منه إلا أن شد اللجام ولوى رأس رحلته وعاد من حيث أتى دون أن يستكمل رحلته، وهو يصيح وأمارات الغضب على ملامحه، قائلا : لم أرجع شحا على الدراهم، ولكن قد سقط الحج بهذا المكس
واستمر الحال على ذلك، طوال قرنين من الزمان إلى أن ظهرت الدولة الأيوبية بالشام ومصر سنة 561 هـ، وفيها تم إعفاء حجاج بيت الله الحرام من الضرائب، بقرار من صلاح الدين الأيوبي، ولم يدم هذا القرار طويلا بل أصبح وسيلة للمساومات بين أمراء مكة ومماليك مصر، للظفر بشرف إمارة مكة، فحينما يرغب أمير مكة في كرسي إمارة مكة يلغي المكوس إرضاء لحكام مصر، ثم يرجع الى عادته في فرض الضرائب بعد استتباب ولايته، وهكذا سقطت هذه العملية في مد وجزر عبر تاريخ الاسلام، وكان ضحيتها حجاج بيت الله الحرام
* * *
وقد كانت هذه المكوس فوق طاقة الحجاج ودولهم ايضا، بسبب المغالاة فيها، مما جعل كثيرا منهم يضجون منها وكان أكثر هؤلاء المحتجين من علماء الاسلام وخاصة أهل الدول المغاربية، وعلى رأسهم أكثرهم شكاية هو الرحالة الأندلسي ابن جبير، الذي زار الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، ودون فظائع جباة الضرائب هناك، فكتب والألم يعتصره من جراء تجربة مريرة مع المكوس المفروضة على الحجاج في وقت حجه، فقال
وأكثر أهل هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم قد تفرقوا على مذاهب شتى وهم يعتقدون في الحجاج ما لا يعتقد في أهل الذمة، قد حيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها، ينتهبونهم انتهابا، ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلابا، فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسر الله رجوعه الى وطنه، ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين الأيوبي، لكانوا من الظلم في أمر لا ينادى وليده ولا يلين شديده، فإنه رفع ضرائب المكوس عن الحاج، وجعل عوض ذلك مالا وطعاما يأمر بتوصيلهما أمير مكة الشريف مكثر، فمتى أبطأت عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم، عاد هذا الأمير الى ترويع الحجاج وإظهار تثقيفهم بسبب المكوس، واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة، فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر، الأمير المذكور، فورد أمره بأن يضمن الحاج بعضهم بعضا، ويدخلوا الى حرم الله، فإن ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين، وإلا فهو لا يترك ماله قبل الحاج، وهذا لفظه، وكأن حرم الله ميراث بيده، محلل له اكتراؤه من الحاج، فسبحان مغير السنن ومبدلها
ويرتفع صوت الرحالة الأندلسي ابن جبير ويصبح أكثر مرارة وهو يريد أن يرفع عن كاهل حجاج مكة ثقلا ثقيلا من عسف وجور وفداحة هذه الضرائب، فيقول
فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف، ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله، هذه البلاد الحجازية، لما هم عليه من حل عرى الاسلام، واستحلال أموال الحاج ودمائهم، فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم، فاعتقاده صحيح لهذا السبب. وبما يصنع بالحاج مما لا يرتضيه الله عز وجل، فراكب هذا السبيل راكب خطر ومعتسف غرر، والله قد أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال، فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام، وجعلوه سببا في استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل، ومصادرة الحجاج عليها، وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم. تلافاها الله عن قريب بتطهير يرفع هذه البدع المجحفة عن المسلمين بسيوف الموحدين أنصار الدين، وحزب الله أولى الحق والصد، والذابين عن حرم الله عز وجل، والغايرين على محارمه، والجادين في إعلاء كلمته وإظهار دعوته ونصر ملته. انتهت رسالة ابن جبير
* * *
وفي الموضوع القادم سنورد باقي الاحتجاجات الصادرة من مختلف ملوك وعلماء العالم الاسلامي، والله الموفق
* * *
* * *
المحمل الشامي
* * *
-----------------------------------
تقديم : محمد زلماضي المزالي
------------------------------------
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire