ليلة اعتقال بوحمارة

ليلة القبض على الثائر بوحمارة
-------------------------------------------------------
يقول المؤرخ عبدالوهاب بنمنصور في كتابه (أعلام المغرب العربي)، وهو يتحدث عن الجدل الذي دار حول من اعتقل الثائر أبي حمارة، فحسم هذا الأمر في ما يلي : زعم هنري كيار (قنصل فرنسا بفاس) في رسالة بعث بها الى السيد رينيو الوزير الفرنسي المفوض بطنجة يوم 25 غشت أن القائد بوشتة ابن البغدادي قائد المحلات السلطانية هو الذي اعتقل أبا حمارة، وهذا ليس بصحيح، وليس بصحيح أيضا ما أورده المؤرخ عبدالرحمن بن زيدان في كتابه (إتحاف أعلام الناس) من أن الذي تولى القبض عليه عسكري من قبيلة الشاوية يسمى (العشي) كان يعمل بطابور القائد بوعودة، والصواب أن الذي اعتقله هو القائد الناجم الدليمي الاخصاصي، كما حكى لي بنفسه رحمه الله، وحكاه لي أيضا المرحوم القائد العربي السرغيني، وتؤيد حكايتهما الوثائق الرسمية التي تؤكد أن القائد الناجم هو الذي انطلق مع جماعة من جنوده لاعتقاله
وفيما يلي قصة اعتقال الثائر بوحمارة كما رواها القائد الناجم الدليمي بلسانه للأستاذ المختار السوسي وسجلها في كتابه (المعسول) بموضوعية تامة، فقال
يقول القائد الناجم الدليمي الاخصاصي: وفي اليوم الثاني تهيأ الجيش المخزني كله، ما معي وما مع رئيس الجيش محبوب (القائد العام) وما مع غيرنا من القياد وهم (القائد بوخبزة – القائد مبارك الدليمي – القائد عنو  الباعمراني – القائد عبدالله الرحماني – القائد الحبيب باقا الفطواكي، فتلاقينا مع الثائر  في موقعة عظيمة بقبيلة مزكلدة، انهزم فيها جيش بوحمارة انهزاما شنيعا، فنهبنا أهل مزكلدة وكل ما وجدناه أمامنا، فولى عن الثائر إذ ذاك كل من معه وتركوه منفردا، فرجعنا نحن عن المنهزمين عند نزول الليل، فرجع الثائر الى محله في ضريح (مولاي عمران) ولم يتبعه أحد، لا منا ولا ممن كانوا معه، وقد تفرق عنه حتى أصحابه الأخصاء، وقدكان العبد المجروح الشهير (الجيلالي مول الضوء) قد مات من قبل، ومات معه الذيل الأخير من بخته.
وفي ليلة الاستراحة جاء رجل من قبائل جبالة يسأل عني، فدلوه على خبائي، فقال لحراسي : أريد أن أتلاقى مع القائد الناجم، فأعمت به، وأمرت بإدخاله، فرأيته في ضوء السراج، فإذا به أعرفه لحكاية حدثت بيننا من قبل حول جاريتين كانتا لديه، وسباهما القائد عبدالرحمن اكرار الكلاوي، فانتزعتهما منه ورددهما لصاحبهما هذا الجبلي، فقال لي في هذه الليلة: إنك قد أحسنت إليّ في ذلك اليوم، وأسديت لي معروفا، والاحسان يملك الانسان، وقد جئت أجزيك إحسانا بإحسان، وأردت أن تحوزه وحدك شرفا لا يشاركك فيه أحد من هؤلاء القياد، وإن ابن الخمسية الذي كان يناصر الثائر ابا حمارة قد ولى عنه بعدما قتل أصحابه، وجرح كثيرون من قبيلته، فلم يبق عنده الآن أهله فقط، وليست معه أية قوة تدافع عنه، فبادر إليه ليكون لك وحدك شرف إلقاء القبض عليه، فإنك أهل لكل شرف، فهيا بسرعة قبل أن يفلت منك، فإني تركته وليس معه من الخيل إلا 75 فرسا، تركها له فرسانها وقد هربوا عنه، وقد أدخل سروجها البراقة المذهبة الى مشهد الولي مولاي عمران، فقم وأسرع، ولا تنس في حياتك أن إسداء المعروف لا ينساه الرجال أهل جبالة الأحرار.
فقمت في الحين فأيقظت أصحابي من القياد، القائد سعيد الدمناتي، والقائد محمد بن سعيد القرقوري، فذهبنا نحن الثلاثة مع بعض الجنود الذين انتقيناهم من بقية جنودنا الثلاثة، فلم نختر إلا من نعلم منهم الرجولة والمغامرة والبسالة، وقد كان عدد جنودي بلغ 1200 رجل، وجند القائد سعيد 800 رجل، أما عند القائد القرقوري فبلغ 3000 جندي، فذهبنا من غير أن يعلم القائد العام محبوب بأي شيء، فتقدمنا ذلك الرجل الجبلي ليدلنا على الطريق، فسبقت أنا بالفرسان، وتبعنا المشاة مع المدافع ومعهم القائد القرقوري، فهاجمت أولا الجهة التي فيها مشهد مولاي عمران، فوجدت المكان كما وصفه لنا دليلنا، حيث وجدت فيه الخيل مصطفة وحدها دون ركابها حول الضريح، فلم نكد نقترب من الضريح عند طلوع الشمس حتى أطلقت علينا ثلاث طلقات من داخله، فعرفنا بعد ذلك أن الذين أطلقوها هم ثلاثة عبيد صغار، هم وحدهم من بقي لدى أبي حمارة، فسقط أحد أفراسنا، فتحرزنا وتنحينا، ثم خرجت عجوز من المشهد تصرخ فينا وتقول : ما تريدون من بلادنا ؟ فقلت لها : لا نريد إلا أبا حمارة وحده، فقالت إنه قد خرج آنفا وليس هنا، فتجاوزنا المشهد قليلا، فرأينا تساقط الرجال علينا من القرى المجاورة لتلك الناحية، فتراكموا على مقربة منا مبتعدين، يتصايحون بنا قائلين : (نحن بالله وبالشرع معكم يا أصحاب السلطان) وقد علاهم الخوف من جيشنا،  فرفعت عقب البندقية وأنا أسير إليهم – وتلك علامة المسالمة -  وقلت لهم : أخرجوا إلينا منكم من نتكلم معهم، وعليكم الأمان التام، فإننا لا نطلب إلا طلبة السلطان أبا حمارة الفتان، فقيل لنا : إنكم تركتموه وراءكم في المشهد، وقد اختبأ عنكم فيه، فرجعنا الى المشهد ودهمناه، ولما أردنا أن ندخل إليه من الباب، أطلق علينا أولئك الغلمان النار فقتل أحد رجالنا، فإذا بأصحابي انتشلوني بأيديهم من أمام الباب وهم يقولون: كأنك لا تريد دائما إلا أن تموت، فأبعدوني عنه، فرغنا الى ناحية أخرى فاقتحمنا المكان وأوقدنا حوله النار، ولم تكن عليه القبة كالعادة، وإنما هو مسقف بأعواد فوق الجدران المرفوعة، وعلى الأعواد تراب، فشبت النار في السقف، فلما اشتد الدخان على الثائر أبي حمارة اندلق من الحل، فانقضضنا عليه، فكنت أول من لمسته يده، ومعي القائد العربي (صار قائد المشور بعد ذلك) ومعنا القائد البخاري من قياد جندي، فنزعنا منه الخنجر أولا من تحت إبطه، والمسدس، والتمائك (خف الفروسية) المخيطة بخيوط الذهب الحقيقي، وأدخلت يدي لأنظر هل على جسده ما يقال لنا من التمائم (الحروز) فلم أجد شيئا، ثم أخرجناه، فإذا بالجند قد دهموا علينا المشهد ينتهبون كل ما في بناية الضريح، وليس في المكان من الناس إلا نساؤه وجواريه وخدمه، والبناية كانت متسعة لتسع عشران من الناس، ثم وصلنا إذ ذاك جيشنا بقضه وقضيضه، فكان كل من وصلنا يضع يده على الثائر ويقول : يا ناجم، هل أنا الذي قبضت أبا حمارة ؟ فأقول : نعم يا سيدي، أنت الذي قبضته، لأداري الناس بذلك لئلا يغلبوني عليه فيقتلوه، وقد ازدحم علينا الناس حتى صار مرفوعا فوق الأكتاف، وأصحابي يدافعون عنه، فكاد يختنق، وقد أضر به العطش، فصار ينادي يا ناجم أغثني بشربة ماء، فقد كدت أموت عطشا، فالتفت الى القائد العربي، وأمرته أن يأتيه بالماء، فأتى بقلة ماء لا بأس بها، فأعلاها يصب الماء في فمه، فبعضه يصل فمه وبعضه يسيل على أكتاف الناس المتزاحمين، ثم أمرت جنديا معي أن يأتي ببغلة، فوقف معي القائد محمد بن الجيلالي – وقد بلغ مني العياء مبلغا عظيما – فأركبناه عليها، وأردفنا وراءه القائد البخاري، وهو رجل من أصحابي معروف، فتمكن منه، وهو مأسور مربوط اليدين وراءه، فقلت له اذهب بالرجل وحافظ عليه، ونكبه وسط الجيش، وباعده من المعسكر خوف أن يقتله الناس، فذهب به، ثم استدعيت القائد محمد القرقوري، فأمرته أن يذهب مع أصحابي ليدافعوا عنه بقوتهم، ثم استلقيت بعد أن اطمأننت على الرجل بثقات أصحابي، فإذا بي قد أغمي علي فوقف علي أهل الشراردة، وأتوا بالسعتر والبصل، حتى تماثلت واسترجعت عقلي، فتبعت أثر أصحابي وأنا على فرسي، فوجدتهم في خلاء، وقد ابتعدوا عن الجيش كما أمرتهم به، فصار بعضنا يهنئ البعض بالسلامة
ليلة سمر مع المعتقل بوحمارة
يضيف القائد الناجم الدليمي فيقول : ثم جعلنا الثائر بوحمارة وسطنا طوال تلك الليلة، وبتنا معه في مراحعة الحديث، نندد عليه بما كان يفعله بنا منذ سبع سنين، فكنت أنا الذي أحادثه كثيرا في ذلك، والقياد الذين باتوا معنا في تلك الليلة حوله هم، القائد صالح، والقائد محمد بن الجيلالي السرغيني، والقائد الحسين الباعمراني، والقائد بوعودة الرحماني، والقائد عبدالكريم ولد بـّا امحمد الشركي، والقائد محمد بن البغدادي الابيض الشهير (باشا فاس في عهد السلطان مولاي عبدالحفيظ)، والقائد ادريس الجويشي الاوديي، والقائد الحافظ الدليمي، والقائد عمارة الشرادي، والقائد الحبيب الشرادي، والقائد ابن ادريس الشرادي، والقائ محمد القريضي المستاري الجبلي، هؤلاء هم الذين استداروا بالثائر ابي حمارة مع أصحابنا في تلك الليلة، وقد أطلقت يديه لإراحته، فلما أكثرت عليه بالتنديد والتثريب وعمله في السحر والشعوذة التي يغرر بها السذج، التفت الى القائد عبدالكريم فقال له: قل لصاحب الركب هذا – يعنيني – ليسكت عني، فقال له إنه ليس بصاحب الركب، بل هو الشجاع الذي تعرفه بمواقفه معك، ثم التفت إليّ أنا وقال : أقرأت كتاب (مشارق الأنوار) ؟ فأجبته بأني أمي لا أقرأ ولا أكتب، فقال : ولماذا تصدع رأسي وأنت لم تقرأ حتى كتاب (مشارق النوار) ؟ ، ثم قال : إن كل ما رأيته جار على وفق الأقدار، لأني أنا الذي تركت بلاد السبيب، وجئت إلى بلاد الزبيب (يعني ترك محل الخيل – والسبيب شعر الخيل – كبلاد أنكاد وأمثالها حيث الفرسان الشجعان، وأتيت إلى بلاد الجبن التي لا يعرف أهلها إلا أن ييبسوا الزبيب، ولا معرفة لهم بالحروب والإقدام، فهلكت عندهم، ثم تكلم القائد محمد المستاري فقال له : إنك معتقل الآن في بلاد الزبيب التي أحرقتها، فقال له : من أين أنت يا هذا ؟ فقال له إنني من جبالة هذه، فالتفت إليه بوحمارة بالحماليق المحمرة كما يؤتى لنا في الظلام، وأمد إليه بصره مليا، فمد يده إلى ما وراء رأسه، كأنه يتناول شيئا من قبه (غطاء الرأس المتصل بالجبة أو السلهام)، فأهوى بيده اليمنى كأنما ينثر شيئا منها على ظهر إبهام يده اليسرى، ثم أهوى بأنفه الى ما فوق إبهام اليد اليسرى، كأنه يستنشقه، ويحاكي بذلك فعل مستنشقي مسحوق التبغ (التنفيحة)، ثم قال : إنكم يا بني جبالة لا تعجبونني إلا حين تتناولون (الكوزة)، يعني وعاء التنفيحة، فتستنشقون مما فيها، وأما الرجولة فأين أنتم منها ؟ فمثلك يا ابن كذا وكذا – يسبه سبا فاحشا – لا يتكلم أمام سادته، ثم التفت الى القائد عبدالكريم فقال له : أما دارك أنت فنعم الدار، وليس عندي فيها ما يقال، (وقد سبق لبوحمارة هذا أن كان في أول أمره عونا عند آل القائد عبدالكريم هذا، قبل أن يكون عند مولاي عمر) ثم قال له : القائد الحافظ كلاما، فسأله عنه : فلما عرف من هو ؟ قال له : أو تظن ايها الأبرص أنني أجهل من أنتم أيها البخلاء، حتى لا يجد الضيف عندكم إلا الدشيشة السوداء مع اللبن الحامض المنتن الذي تأباه حتى الكلاب ؟ ثم صار يسأل عن كل واحد من الحاضرين على حدة، فلما ذكرنا له القائد بوعودة قال : هذا أبوعودة وأنا أبو حمارة فالله يأتي بأبي جمل، ثم التفت إلي وإلى الجالسين أجمعين، فقال : تبا لكم يا أشباه الرجال فمتى كنتم رجالا في أعين الناس ونلتم السمعة بين أقرانكم ؟ فبمن اكتنزتم ما اكتنزتم من الأموال والمتاع والخيل والبغال ؟ أو لست أنا هو السبب في كل ذلك ؟ فبفضلي ظهرتم وصرتم تتوصلون من خزانة الدولة بالمؤونة، وبكل ما تقدمون فيه مطاليبكم ؟ فهذا أمري اليوم قد انقضى، وستذهبون اليوم إلى حيث تقبعون وتتقمعون فتذوذون الذباب وتهومون (ترفعون رؤوسكم بالنعاس)، فأين رجولتكم وشهامتكم ومجادتكم يا أبناء الكزازة والبخل والشح واللؤم ؟ فلو كان فيكم عرق ينبض بالرجولة لما تركتموني بينكم هكذا، وارتعد من شدة البرد، وأنتم تنظرون، فنزع القائد ادريس الاديي سلهاما رقيقا فدفعه إليه، فرماه إليه بكل أنفة، وقال : أبهذا الرقيق الشفاف يرد البرد القارص، ثم همس أحد أعواني في أذني بأن عنده بردة غليظة إن لاقت به، فذكرت ذلك لأبي حمارة، فقال : ائتوني ولو بالحلس، فإن البرد قد بلغ مني مبلغا عظيما، فأتيناه بها فالتف فيها، ثم جمعنا طرفيها تحت ذقنه بشوكة

هكذا قضى قياد الجيش المخزني ليلتهم في سمر مع المعتقل بوحمارة، ولم تغمض لهم عين خشية فراره، وفي الصباح التحقوا بمعظم الجيش، وقد الناجم أسيره الى القائد العام القائد محبوب، وساروا جميعا حتى بلغوا أراضي قبيلة شراكة، فباتوا بها ليلتهم الثانية (الثلاثاء)، ثم ساروا في الصباح الى قبيلة لمطة حيث أطلوا على فاس من جبلها الشهير (زالغ)، وهناك استقبلهم مبعوثوا السلطان ومعهم قفص خشبي وبعير، فبلغوا القائد الناجم ومن معه أمر السلطان بجعل الأسير في القفص وإدخاله محمولا داخله على البعير الى فاس، فامتثل الأمر، وسلسل عبيد البخاري أبا حمارة وأدخلوه في القفص وساروا به الى فاس، والقائد الناجم يمسك بخطام البعير، فدخلوا المدينة في الساعة 10 من صباح يوم الثلاثاء 7 شعبان 1327ه موافق 24 غشت 1909م، وسط جمهور غفير من المتفرجين، ولم ينخ الناجم البعير إلا أمام السلطان ومخزنه بمشور باب البوجات الذي دخلوه من أحد ابوبه المسمى باب مكناس
*
* * *
*

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire